السردية السياسية في الفنّ العربيّ الحديث: الفنّان يخبرنا بما حدث

تحول الفن العربي من فن يُتذوق جماليًا فقط ليصبح أداةً نضالية لرفض الظلم والعدوان بكافة أشكاله، فيعبر عن مرارة واقعه وعن توقه إلى السلام.

يقال إن الفنَّ مرآةُ المجتمع، ومن الجدير بالذكر أن هذه المرآة لم تعكس في معظم الوقت مظاهرَ جميلةً في الوطن العربي. حيث أثّرتْ كلٌّ من الحرب العالمية الثانية وتبعاتها، والتحرر من الاستعمار الإنقليزي، وصعود القومية العربية، والقضية الفلسطينية في ما ينتجه الفنان العربيّ. وبات الفنان منذ مطلع الخمسينيات إلى فترة الثورات العربية راويًا تاريخيًا، يسيطر على فنه ما يحدث في بلاده من حروبٍ وثوراتٍ وظروفٍ اقتصاديّةٍ مؤلمةٍ ومجاعاتٍ ومجازر. 

ومن الممكن القول إن الفن العربي كان، ومازال، عنصرًا أساسيًا في رسم تلك المظاهر الواقعية القاسية التي عكست الوضع المضطرب والمتذبذب للمنطقة. 

الفنّ الذي عبّر عن القضيّة الفلسطينيّة

كانت القضية الفلسطينية منذ نشوء دولة الاحتلال عام 1948، وما زالت، عنصرًا أساسيًا في المنتوج الثقافي الفلسطيني. وظل الفن الفلسطيني أيضًا جزءًا لا يتجزأ من النّضال المستمرّ، فتارةً يكون أداة مقاومةٍ وتارةً أداةَ توثيق وإثبات وجود. وأصبح الفن ثوريًا في الوضع الراهن لمحاربته السّرد الإسرائيلي الذي يسرق مكنونات الثقافة الفلسطينية وينسبها للكيان الإسرائيلي علنًا، في محاولةٍ مستميتةٍ منه لإثبات صلة الصهاينة بالأرض الفلسطينية ومن ثم الحصول على شرعيةٍ ثقافية.

وأصبحت لوحة جَمل المحامل، التي رسم الفنان سليمان منصور النسخة الأولى منها عام 1973، أيقونةً فنيةً في الوطن العربي، يكاد لا يخلو منها بيت فلسطيني، لتجسيدها النضال والتضحيات التي يتكبدها الفلسطينيون في مجابهتهم للاحتلال.

تعرضت هذه اللوحة للكثير، فقد اختفت في ظروف غامضة عام 1973، ثم أعاد الفنان رسمها عام 1976 واقتناها السفير الليبي في عمّان وأهداها إلى الرئيس  السابق معمّر القذافي، لتدمر لاحقًا أثناء القصف الأميركي لقصر القذافي في طرابلس عام 1986. وفي عام 2005، أعاد الفنان سليمان منصور رسمها، وانضمت إلى لوحات جامع المقتنيات الفنية العربية الدكتور رمزي دلول واللوحة موجودة في متحفه الخاص في لبنان. 

Image2
النسخة الثالثة من لوحة «جمل المحامل» (2005) / سليمان منصور

التيار الناصري والقومية العربية

كان عبدالناصر، في عصره الذهبي وفي ستينيات القرن الماضي، رمزًا ثوريًا لكثير من الشباب العربي. إذ كان لخطاباته المندّدة بالاستعمار والداعية للوحدة العربية، والحالمة بأمة عربية متحدة قوية وقعٌ قويٌ في نفس الشباب الذي عاصر فترة ما بعد الاستعمار وإنهاء الهيمنة الغربية على بلاده، وعاش مرحلةً انتقاليّةً حرجةً سعى فيها إلى تحديد ملامح هويته الوطنية العربية ورسمها. لذلك وجد الشباب العربي في عبدالناصر قائدًا يعبر عن الطموح السياسي الشاب الهادف إلى خلق هوية عربية متحررة من الاستعمار الإنقليزي، وإلى وتمكين الطبقة العاملة وتحسين ظروفها المعيشية. 

و نظرًا لحساسية فترة ما بعد الاستعمار التي سادت فيها المشاعر القومية والرغبة في بناء الأمة والهوية الوطنية في مختلف أنحاء الوطن العربي، تزامنًا مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وحروبه مع دولٍ عربيةٍ، انتشر الفكر الناصري القومي العربي وساهم في رفع معنويات هذه الشعوب وتعزيز حس الانتماء وحب الوطن. 

وقد أُعجب العديد من الفنانين العرب بالرئيس عبدالناصر، إذ رأوا فيه شخصيةً أكبرَ من الحياة تتمتع بسحر وجاذبية فريدة. وتجلى ذلك الإعجاب في أعمالهم، حيث جسد الرئيس الراحل أكثرُ من ستين عملًا فنيًا عربيًا حديثًا ومعاصرًا. ويظهر ذلك، مثلًا، في لوحة الفنان المصري حامد عويس (الزعيم وتأميم القناة، 1957). 

يصور عويس في هذه اللوحة مشهدًا قوميًا يملؤه الفخر والاعتزاز بالوطن، ويظهر فيها الرئيس بحجم كبير مهيمنًا على معظم مساحة اللوحة، كناية عن مكانته باعتباره رمزًا قياديًا. وتبدو من خلفه الحشود الشعبية من الطبقة العاملة المصرية في مشهد رائع يصور الواقعية الاجتماعية والاشتراكية لتلك الحقبة، على ضفة قناة السويس، وهو يشير إليهم بيده ويحييهم.

تجسد هذه اللوحة لحظة انتصارٍ واستعادة قوة  اقتصادية مهمة تمثلها قناة السويس بعد تأميمها من الاستعمار البريطاني الذي استحوذ عليها اقتصاديًا وتشغيليًا عدة عقود. حرص عويس على أن يعطي الرئيس عبد الناصر حجمًا أكبر مقارنةً  بغيره ممن يظهر في الصورة، تشديدًا على مكانته، بوصفه قائدًا مناصرًا للطبقة العاملة، وحاملًا لأحلام الشعب الكبيرة، متعهدًا لهم بمستقبل واعد بعيدٍ عن هيمنة الاستعمار. الجدير بالذكر أن هذه اللوحة بيعت في مزاد لدار كرستيز بمبلغ يزيد على مليوني  درهم إماراتي، أي بما يعادل نصف مليون دولار في عام 2014.

Image3
لوحة «الزعيم وتأميم القناة» (1957) / حامد عويس

لم يقتصر تجسيد الرئيس الراحل وتأثيره على المنتوج الفني المصري فقط، فقد تجاوز الحدود وأثر في نفوس الكثير من الشباب الخليجي أيضًا. ويظهر ذلك جليًا في عمل الفنان الكويتي الراحل، مؤسس الحركة الفنية الدائرية خليفة القطان، المعروف بشيخ الفنانين. حيث يصور الرئيس الراحل على خارطة الوطن العربي، ويظهر رأسه منبثقًا من الخريطة وخلفه علم الجمهورية العربية المتحدة، وهي اتحاد فيدرالي وحّد  مصر وسوريا بين عامي 1958-1961، مؤلّفًا دولة ذات سيادة مثلت ذروة إيديولوجية الوحدة والقومية العربية التي كان عبدالناصر من أكبر مروجيها والمؤمنين بها. 

تمثل هذه اللوحة فكرة الحلم العربي الذي كان يرجو جمال عبد الناصر تحقيقه، وهو مشروع سياسي طوباوي يربط الوطن العربي من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي. يقال إنه منحها اسم «من المحيط إلى الخليج» إشارة إلى امتداد التأثير الناصري وقوميته في الشعوب العربية.

Image1
لوحة «من المحيط الى الخليج» (1958) / خليفة القطان

الفنّان شاهدًا على الدماء 

وثّق الفنان العراقي ضياء العزاوي مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها حزب الكتائب بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين  عام 1982. وقال العزاوي إن قراره رسمَ مشاهد من المجزرة جاء نتيجةً للإلهام الذي استمده من مقال «أربع ساعات في شاتيلا» للكاتب الفرنسي جان جينيه. 

كان جينيه من أوائل المراقبين الذين دخلوا مخيمات صبرا وشاتيلا، وكتب واصفًا ألم تلك التجربة:

لا تُظهر الصورة الذباب ولا رائحة الموت البيضاء الكثيفة، كما أنها لا تُظهر كيف يجب أن تقفز فوق الجثث وأنت تمشي من جثة إلى أخرى… لقد أقيمت حفلة بربرية هناك.

خصص العزاوي الكثير من الوقت، في منزله الكائن في لندن، لرسم المجزرة وتوثيقها. فقد رسم بما بات يعرف لاحقًا «بالقرنيكا العربية» أسوةً بالقرنيكا الشهيرة التي رسمها بابلو بيكاسو عام 1937 في مدريد. ورسم العزاوي هذه اللوحة باللونين الأسود والرمادي، خلافًا لأسلوبه الفني المليء بالألوان، كنايةً عن شناعة الحدث. وقد ملأ جداريته ذات الأبعاد الكبيرة بالكثير من المشاهد الدموية التي تصور وحشية المشهد تصويرًا يظهر عنف مرتكبي هذه المجزرة وهمجيتهم. 

وعلى الرغم من اتساع رقعة اللوحة، فإنها وفي كل جزء منها تصور مشهدًا من مشاهد الرعب ولا تتيح للواقف أمامها فرصة بأن يفكر بغير  قباحة المجزرة ووحشيتها.  تزدحم اللوحة وتغص بالأشلاء والتفاصيل المعمارية المحلية وصور الحيوانات والقنابل. وما تزال لوحة صبرا وشاتيلا محفورةً في ذاكرة من عاصروا المجزرة رغم تصويرها حدثًا أسود في تاريخ العالم العربي وتوثيقها المذبحة الرهيبة في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، التي يتراوح عدد ضحاياها بين سبعمئة وخمسين إلى ثلاثة آلاف وخمسمئة.

تُعتبر هذه اللوحة من أهم أعمال العزاوي وأكثرها أيقونية. ويصف العزاوي أهمية هذا العمل لكونه ينبع من حسه بالمسؤولية الإنسانية والعربية تجاه هذا الحدث الفظيع، ورغبته في توثيقه. ولا بد أن نذكر هنا مديح الناقد العراقي ماجد السامرائي لهذه اللوحة في قوله:

رسم بيكاسو قرنيكا الحرب العالمية ورسم ضياء العزاوي قرنيكا صبرا وشاتيلا، وأجده قد تفوّق فيها على بيكاسو.

عُرف عن العزاوي اهتمامه بتوثيق المشهد السياسي العربي في غالبية أعماله. فقد انصبت مساهماته الأولى في صلب هموم الشعب الفلسطيني، لتتحول لاحقًا إلى الاهتمام بقضايا أخرى تتعلق بالعراق، موطنه الأصلي، وما شهده من تدميرٍ وتخريبٍ، تركا أثرًا عظيمًا في نفسه وأسلوبه الفني. 

18397cbf2f1246aec9af292e69f54ab2874fb4a6 2953x1224
لوحة «صبرا وشاتيلا» (1982-1983) / ضياء العزّاوي
Image4
«لا نرى إلا جثثًا» (1983) / ضياء العزّاوي

قد يكون المقال لفتةً موجزةً تسلط الضوء على الفنان العربي وتجاوزه الأغراض الجمالية ليصبح مؤرخًا وراويًا وإنسانًا يعكس واقعه ويشعر بالمسؤولية تجاه هويته العربية وما مر بالمنطقة من أحداث سياسية واجتماعية. إذ نرى الفنان هنا راويًا بصريًا يخبرنا بما حدث من خلال لغته الخاصة وتكوينه الفني الأصيل. 

جنسية الفنان السعودي، أهم من فنه؟

حظي الفنان السعودي في بضع السنوات الأخيرة بفرصة عرض أعمالهم في محافل دولية كان أغلبها في دول أوربا وأميركا الشمالية.

3 سبتمبر، 2018

وفي الحقيقة، يعتمد الفن العربي في نتاجه على الواقع السياسي والاجتماعي والظروف المحيطة به، وهذا ما جعله الأقرب إلى قلبي والأكثر تمثيلاً لهُويتي. فهذا الفن والمنتوج الثقافي يعكس الواقع الحقيقي للعالم العربي بجميع تقلباته التي حصلت في القرنين الماضيين أو يعبر عنها وعن ثقافته الثرية المتنوعة. 

باعتبار الفن العربي فنًا سياسيًا بطبيعته، فقد تحول من فن يُتذوق جماليًا فقط، أو فن يقتنيه الأثرياء بغرض التباهي، أو من كونه منتجًا آخر من منتجات الرأسمالية العالمية، وتجاوز كل تلك السطحيات الاستهلاكية والربحية ليصبح فنًا ثوريًا. Click To Tweet

يكافح كل أشكال القمع ويدافع عن المقهورين ويرفض الاستبداد. وأصبح أداةً نضالية استخدمها الفنان لرفض الظلم والعدوان بكافة أشكاله، فيعبر عن مرارة واقعه وعن توقه إلى السلام والحياة الأفضل في المستقبل.

الفن العربيالقضية الفلسطينيةالقوميةالثقافة
مقالات حرةمقالات حرة